فصل: الجزء الثاني والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


 الجزء الثاني والعشرون

‏[‏30 ـ 31‏]‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا‏}

لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن، لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن اللّه تعالى، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة، لها العذاب ضعفين‏.‏

{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ تطيع ‏{‏لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا‏}‏ قليلا أو كثيرًا، ‏{‏نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ مثل ما نعطي غيرها مرتين، ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا‏}‏ وهي الجنة، فقنتن للّه ورسوله، وعملن صالحًا، فعلم بذلك أجرهن‏.‏

‏[‏32 ـ 34‏]‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ‏}‏ خطاب لهن كلهن ‏{‏لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ‏}‏ اللّه، فإنكن بذلك، تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها‏.‏

فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ‏}‏ أي‏:‏ في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع ‏{‏الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح ‏[‏فإن القلب الصحيح‏}‏ ليس فيه شهوة لما حرم اللّه، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض‏.‏

بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد‏.‏ فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول‏.‏

ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا‏}‏ أي‏:‏ غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع‏.‏

وتأمل كيف قال‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏فلا تَلِنَّ بالقول‏}‏ وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع، هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم، فإن هذا، لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين، فقال‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ وقال لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}

ودل قوله‏:‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم، والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض‏.‏

فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به‏.‏

{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، ‏{‏وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى‏}‏ أي‏:‏ لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه‏.‏

ولما أمرهن بالتقوى عمومًا، وبجزئيات من التقوى، نص عليها ‏[‏لحاجة‏}‏ النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما، ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة، الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة، الإحسان إلى العبيد‏.‏

ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ يدخل في طاعة اللّه ورسوله، كل أمر، أُمِرَا به أمر إيجاب أو استحباب‏.‏

{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ‏}‏ بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، ‏{‏لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ‏}‏ أي‏:‏ الأذى، والشر، والخبث، يا ‏{‏أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ حتى تكونوا طاهرين مطهرين‏.‏

أي‏:‏ فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم‏.‏

ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبين لهن طريقه، فقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ والمراد بآيات اللّه، القرآن‏.‏ والحكمة، أسراره‏.‏ وسنة رسوله‏.‏ وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا‏}‏ يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر‏.‏

فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال‏.‏

ومن معاني ‏{‏اللطيف‏}‏ الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق، ما لا يدريه، ويريه من الأسباب، التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا ‏[‏له‏}‏ إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل‏.‏

‏[‏35‏]‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}

لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعقابهن ‏[‏لو قدر عدم الامتثال‏}‏ وأنه ليس مثلهن أحد من النساء، ذكر بقية النساء غيرهن‏.‏

ولما كان حكمهن والرجال واحدًا، جعل الحكم مشتركًا، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏ وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها‏.‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله‏.‏

‏{‏وَالْقَانِتِينَ‏}‏ أي‏:‏ المطيعين للّه ولرسوله ‏{‏وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ‏}‏ في مقالهم وفعالهم ‏{‏وَالصَّادِقَاتِ‏}‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ‏}‏ على الشدائد والمصائب ‏{‏وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ‏}‏ في جميع أحوالهم،خصوصًا في عباداتهم، خصوصًا في صلواتهم، ‏{‏وَالْخَاشِعَاتِ‏}‏ ‏{‏وَالْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏ فرضًا ونفلاً ‏{‏وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ‏}‏ شمل ذلك، الفرض والنفل‏.‏ ‏{‏وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ‏}‏ عن الزنا ومقدماته، ‏{‏وَالْحَافِظَاتِ‏}‏ ‏{‏وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ ‏[‏كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏‏}‏ في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات ‏{‏وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏

{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان‏.‏

فجازاهم على عملهم ‏{‏بِالْمَغْفِرَةً‏}‏ لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات‏.‏ ‏{‏وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم‏.‏

‏[‏36‏]‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا‏}

أي‏:‏ لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة اللّه ورسوله، والهرب من سخط اللّه ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة ‏{‏إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا‏}‏ من الأمور، وحتَّما به وألزما به ‏{‏أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ الخيار، هل يفعلونه أم لا‏؟‏ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر اللّه ورسوله‏.‏

{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ بَيِّنًا، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة اللّه، إلى غيرها، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولاً السبب الموجب لعدم معارضته أمر اللّه ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال‏.‏

‏[‏37‏]‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا‏}

وكان سبب نزول هذه الآيات، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة، من جميع الوجوه وأن أزواجهم، لا جناح على من تبناهم، في نكاحهن‏.‏

وكان هذا من الأمور المعتادة، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله، وفعلاً، وإذا أراد اللّه أمرًا، جعل له سببًا، وكان زيد بن حارثة يدعى ‏"‏زيد بن محمد‏"‏ قد تبناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصار يدعى إليه حتى نزل ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ‏}‏ فقيل له‏:‏ ‏"‏زيد بن حارثة‏"‏ ‏.‏

وكانت تحته، زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان قد وقع في قلب الرسول، لو طلقها زيد، لتزوَّجها، فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فراقها‏.‏

قال اللّه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بالإسلام ‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ بالعتق حين جاءك مشاورًا في فراقها‏:‏ فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته مع وقوعها في قلبك‏:‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ أي‏:‏ لا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، ‏{‏وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏ تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى، تحث على الصبر، وتأمر به‏.‏

{‏وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ‏}‏ والذي أخفاه، أنه لو طلقها زيد، لتزوجها ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

‏{‏وَتَخْشَى النَّاسَ‏}‏ في عدم إبداء ما في نفسك ‏{‏وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏ وأن لا تباليهم شيئًا، ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا‏}‏ أي‏:‏ طابت نفسه، ورغب عنها، وفارقها‏.‏ ‏{‏زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ وإنما فعلنا ذلك، لفائدة عظيمة، وهي‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ حيث رأوك تزوجت، زوج زيد بن حارثة، الذي كان من قبل، ينتسب إليك‏.‏

ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ عامًا في جميع الأحوال، وكان من الأحوال، ما لا يجوز ذلك، وهي قبل انقضاء وطره منها، قيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا‏}‏ أي‏:‏ لا بد من فعله، ولا عائق له ولا مانع‏.‏

وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة، فوائد، منها‏:‏ الثناء على زيد بن حارثة، وذلك من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اللّه سماه في القرآن، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره‏.‏

والثاني‏:‏ أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه، أي‏:‏ بنعمة الإسلام والإيمان‏.‏ وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن، ظاهرًا وباطنًا، وإلا، فلا وجه لتخصيصه بالنعمة، لولا أن المراد بها، النعمة الخاصة‏.‏

ومنها‏:‏ أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق‏.‏

ومنها‏:‏ جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ، كما صرح به‏.‏

ومنها‏:‏ أن التعليم الفعلي، أبلغ من القولي، خصوصًا، إذا اقترن بالقول، فإن ذلك، نور على نور‏.‏

ومنها‏:‏ أن المحبة التي في قلب العبد، لغير زوجته ومملوكته، ومحارمه، إذا لم يقترن بها محذور، لا يأثم عليها العبد، ولو اقترن بذلك أمنيته، أن لو طلقها زوجها، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما، أو يتسبب بأي سبب كان، لأن اللّه أخبر أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخفى ذلك في نفسه‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بلغ البلاغ المبين، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه، إلا وبلغه، حتى هذا الأمر، الذي فيه عتابه‏.‏

وهذا يدل، على أنه رسول اللّه، ولا يقول إلا ما أوحي إليه، ولا يريد تعظيم نفسه‏.‏

ومنها‏:‏ أن المستشار مؤتمن، يجب عليه ـإذا استشير في أمر من الأمورـ أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه‏.‏

ومنها‏:‏ أن من الرأي‏:‏ الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال، فهو أحسن من الفرقة‏.‏

ومنها‏:‏ ‏[‏أنه يتعين‏}‏ أن يقدم العبد خشية اللّه، على خشية الناس، وأنها أحق منها وأولى‏.‏

ومنها‏:‏ فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين، حيث تولى اللّه تزويجها، من رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دون خطبة ولا شهود، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات‏.‏

ومنها‏:‏ أن المرأة، إذا كانت ذات زوج، لا يجوز نكاحها، ولا السعي فيه وفي أسبابه، حتى يقضي زوجها وطره منها، ولا يقضي وطره، حتى تنقضي عدتها، لأنها قبل انقضاء عدتها، هي في عصمته، أو في حقه الذي له وطر إليها، ولو من بعض الوجوه‏.‏

‏[‏38 ـ 39‏]‏ ‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا‏}

هذا دفع لطعن من طعن في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كثرة أزواجه، وأنه طعن، بما لا مطعن فيه، فقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي‏:‏ إثم وذنب‏.‏ ‏{‏فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ قدر له من الزوجات، فإن هذا، قد أباحه اللّه للأنبياء قبله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ أي‏:‏ لا بد من وقوعه‏.‏

ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا، وهذه سنتهم وعادتهم، وأنهم ‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ‏}‏ فيتلون على العباد آيات اللّه، وحججه وبراهينه، ويدعونهم إلى اللّه ‏{‏وَيَخْشَوْنَهُ‏}‏ وحده لا شريك له ‏{‏وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا‏}‏ إلا اللّه‏.‏

فإذا كان هذا، سنة في الأنبياء المعصومين، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها، أتم القيام، وهو‏:‏ دعوة الخلق إلى اللّه، والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور، وترك كل محظور، دل ذلك على أنه لا نقص فيه بوجه‏.‏

{‏وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا‏}‏ محاسبًا عباده، مراقبًا أعمالهم‏.‏ وعلم من هذا، أن النكاح، من سنن المرسلين‏.‏

‏[‏40‏]‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}

أي‏:‏ لم يكن الرسول ‏{‏مُحَمَّدٌ‏}‏ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏{‏أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه، من هذا الباب‏.‏

ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال، إن حمل4 ظاهر اللفظ على ظاهره، أي‏:‏ لا أبوة نسب، ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم، فاحترز أن يدخل في هذا النوع، بعموم النهي المذكور، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ أي‏:‏ هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع، المهتدى به، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته، على محبة كل أحد، الناصح الذي لهم، أي‏:‏ للمؤمنين، من بره ‏[‏ونصحه‏}‏ كأنه أب لهم‏.‏

{‏وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ قد أحاط علمه بجميع الأشياء، ويعلم حيث يجعل رسالاته، ومن يصلح لفضله، ومن لا يصلح‏.‏

‏[‏41 ـ 44‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * َْتَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا‏}

يأمر تعالى المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرًا، من تهليل، وتحميد، وتسبيح، وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان، أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب‏.‏

وينبغي مداومة ذلك، في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل، وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح‏.‏

{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ أي‏:‏ أول النهار وآخره، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها‏.‏

‏[‏43‏]‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا *‏}‏

أي‏:‏ من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان، والتوفيق، والعلم، والعمل، فهذه أعظم نعمة، أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه، أفضل الملائكة، ومن حوله، يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا‏.‏

وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا من أعطاهم إياه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا‏}

‏[‏45 ـ 48‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}

هذه الأشياء، التي وصف الله بها رسوله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي المقصود من رسالته، وزبدتها وأصولها، التي اختص بها، وهي خمسة أشياء‏:‏ أحدها‏:‏ كونه ‏{‏شَاهِدًا‏}‏ أي‏:‏ شاهدًا على أمته بما عملوه، من خير وشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا‏}‏ فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاهد عدل مقبول‏.‏

الثاني، والثالث‏:‏ كونه ‏{‏مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك‏.‏

فالمبشَّر هم‏:‏ المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم‏.‏

وذلك كله يستلزم، ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب‏.‏

والْمنْذَر هم، هم‏:‏ المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية، المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل‏.‏

وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكتاب والسنة، المشتمل على ذلك‏.‏

الرابع‏:‏ كونه ‏{‏دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أرسله اللّه، يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته، التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته، على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره‏.‏

الخامس‏:‏ كونه ‏{‏سِرَاجًا مُنِيرًا‏}‏ وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم، يستدل به في جهالاتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلَّالًا إلى الصراط المستقيم‏.‏

فأصبح أهل الاستقامة، قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا‏}‏ ذكر في هذه الجملة، المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة‏.‏

وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي‏:‏ العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النعم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه‏.‏

وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم، من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه‏.‏

ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه، من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهرًا وباطنًا، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، ‏[‏بل لا تطعهم ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏‏}‏ فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له، ولأهله‏.‏

{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏ تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده‏.‏

‏[‏49‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا‏}

يخبر تعالى المؤمنين، أنهم إذا نكحوا المؤمنات، ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن، فليس عليهن في ذلك، عدة يعتدها أزواجهن عليهن، وأمرهم بتمتيعهن بهذه الحالة، بشيء من متاع الدنيا، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن، لأجل فراقهن، وأن يفارقوهن فراقًا جميلاً، من غير مخاصمة، ولا مشاتمة، ولا مطالبة، ولا غير ذلك‏.‏

ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق، لا يكون إلا بعد النكاح‏.‏ فلو طلقها قبل أن ينكحها، أو علق طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ فجعل الطلاق بعد النكاح، فدل على أنه قبل ذلك، لا محل له‏.‏

وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة، وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح، فالتحريم الناقص، لظهار، أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء‏.‏

ويدل على جواز الطلاق، لأن اللّه أخبر به عن المؤمنين، على وجه لم يلمهم عليه، ولم يؤنبهم، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين‏.‏

وعلى جوازه قبل المسيس، كما قال في الآية الأخرى ‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}

وعلى أن المطلقة قبل الدخول، لا عدة عليها، بل بمجرد طلاقها، يجوز لها التزوج، حيث لا مانع، وعلى أن عليها العدة، بعد الدخول‏.‏

وهل المراد بالدخول والمسيس، الوطء كما هو مجمع عليه‏؟‏ أو وكذلك الخلوة، ولو لم يحصل معها وطء، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون، وهو الصحيح‏.‏ فمن دخل عليها، وطئها، أم لا، إذا خلا بها، وجب عليها العدة‏.‏

وعلى أن المطلقة قبل المسيس، تمتع على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، ولكن هذا، إذا لم يفرض لها مهر، فإن كان لها مهر مفروض، فإنه إذا طلق قبل الدخول، تَنَصَّف المهر، وكفى عن المتعة، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده، أن يكون الفراق جميلاً، يحمد فيه كل منهما الآخر‏.‏

ولا يكون غير جميل، فإن في ذلك، من الشر المرتب عليه، من قدح كل منهما بالآخر، شيء كثير‏.‏

وعلى أن العدة حق للزوج، لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ‏}‏ دل مفهومه، أنه لو طلقها بعد المسيس، كان له عليها عدة ‏[‏وعلى أن المفارقة بالوفاة، تعتد مطلقًا، لقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ الآية‏}‏

وعلى أن من عدا غير المدخول بها، من المفارقات من الزوجات، بموت أو حياة، عليهن العدة‏.‏

‏[‏50‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}

يقول تعالى، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه، هو والمؤمنون، وما ينفرد به، ويختص‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، ‏[‏فإن المؤمنين‏}‏ كذلك يباح لهم ما آتوهن أجورهن، من الأزواج‏.‏

‏{‏و‏}‏ كذلك أحللنا لك ‏{‏مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ أي‏:‏ الإماء التي ملكت ‏{‏مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ‏}‏ من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم، ومن لا زوج لهن، وهذا أيضا مشترك‏.‏

وكذلك من المشترك، قوله ‏{‏وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ‏}‏ شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر المحللات‏.‏

يؤخذ من مفهومه، أن ما عداهن من الأقارب، غير محلل، كما تقدم في سورة النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع مطلقًا، والأصول مطلقًا، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع من فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح‏.‏

وقوله ‏{‏اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين، في تفسير هذه الآية، وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة‏.‏

‏{‏و‏}‏ أحللنا لك ‏{‏وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏}‏ بمجرد هبتها نفسها‏.‏

{‏إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا‏}‏ أي‏:‏ هذا تحت الإرادة والرغبة، ‏{‏خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إباحة الموهبة وأما المؤمنون، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة، بمجرد هبتها نفسها لهم‏.‏

{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل، من الزوجات وملك اليمين‏.‏ وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه‏.‏

فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك، ‏{‏لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته، وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه‏.‏